أسباب النصر الحقيقية
قال الله تعالى: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌالَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [ الحج : 40 - 41 ]
قال العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -:
في هاتين الآيتين بيان الأوصاف التي يُسْتَحَقُّ بها النصر، وهي أوصاف يتحلى بها المؤمن بعد التمكين في الأرض، فلا يُغريه هذا التمكين بالأشَر والبطر والعلو والفساد، وإنما يزيده قوة في دين الله وتمسكا به.
■الوصف الأول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ}، والتمكين في الأرض لا يكون إلا بعد تحقيق عبادة الله وحده كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور : 55 ] ، فإذا قام العبد بعبادة الله مخلصا له في أقواله وأفعاله لا يريد بها إلا وجه الله والدار الآخرة، ولا يريد بها جاها ولا ثناء من الناس ولا مالا ولا شيئا من الدنيا، واستمر على هذه العبادة المخلصة في السراء والضراء والشدة والرخاء مكَّنَ الله له في الأرض، وإذن فالتمكين في الأرض يستلزم وصفا سابقا عليه وهو عبادة الله وحده لا شريك له وبعد التمكين والإخلاص يكون.
■الوصف الثاني : وهو إقامة الصلاة بأن يؤدي الصلاة على الوجه المطلوب منه قائما بشروطها وأركانها وواجباتها، وتمام ذلك القيام بمستحَبَّاتها، فيحسن الطهور، ويقيم الركوع والسجود والقيام والقعود، ويحافظ على الوقت وعلى الجمعة والجماعات، ويحافظ على الخشوع وهو حضور القلب وسكون الجوارح، فإن الخشوع روح الصلاة ولبها، والصلاة بدون خشوع كالجسم بدون روح، وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل لينصرف وما كُتِبَ له إلا عُشْر صلاته تُسعها ثُمنها سُبعها سُدسها خُمسها رُبعها ثُلثها نِصفها» .
■الوصف الثالث : إيتاء الزكاة {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} بأن يعطوها إلى مستحِقِّيها طَيِّبَة بها نفوسهم كاملة بدون نقص يبتغون بذلك فضلا ورضوانا، فيزكون بذلك أنفسهم، ويطهرون أموالهم، وينفعون إخوانهم من الفقراء والمساكين وغيرهم من ذوي الحاجات، وقد سبق بيان مستحِقِّي الزكاة الواجبة في المجلس السابع عشر.
■الوصف الرابع : الأمر بالمعروف {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} والمعروف : كل ما أمر الله به ورسوله من واجبات ومستحبات، يأمرون بذلك إحياء لشريعة الله وإصلاحا لعباده واستجلابا لرحمته ورضوانه، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فكما أن المؤمن يحب لنفسه أن يكون قائما بطاعة ربه فكذلك يـجب أن يحب لإخوانه من القيام بطاعة الله ما يحب لنفسه.
والأمر بالمعروف عن إيمان وتصديق أن يكون قائما بما أمر به عن إيمان واقتناع بفائدته وثمراته العاجلة والآجلة .
■الوصف الخامس: النهي عن المنكر {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} والمنكر: كل ما نهى الله عنه ورسوله من كبائر الذنوب وصغائرها مما يتعلق بالعبادة أو الأخلاق أو المعاملة، ينهون عن ذلك كله صيانة لدين الله وحماية لعباده واتقاء لأسباب الفساد والعقوبة .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبقاء الأمة وعزتها ووحدتها حتى لا تتفرق بها الأهواء وتتشتت بها المسالك، ولذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الدين على كل مسلم ومسلمة مع القدرة {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 104 - 105 ]، فلولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتفَرَّق الناس شِيَعًا، وتمزقوا كل ممزق، كل حزب بما لديهم فرحون، وبه فُضِّلت هذه الأمة على غيرها {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [ آل عمران : 110 ] ، وبتركه { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَكَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُلَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [ المائدة : 78 - 79 ] .
والأمر بالشيء والنهي عنه يدخل فيه ما لا يتم إلا به، فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم، أجبروا الناس على التعلم والتعليم، وإذا كان يتوقف على تأديب مقدر شرعا، أو غير مقدر، كأنواع التعزير، قاموا بذلك، وإذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له، لزم ذلك، ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به.
فهذه الأوصاف الخمسة متى تحققت مع القيام بما أرشد الله إليه من الحزم والعزيمة وإعداد القوة الحسية حصل النصر بإذن لله {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَيَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [ الروم : 6 - 7 ] ، فيحصل للأمة من نصر الله ما لم يخطر لهم على بال.
وبها يعرف، أن من ادعى أنه ينصر الله وينصر دينه، ولم يتصف بهذا الوصف، فهو كاذب.
وإن المؤمن الواثق بوعد الله ليعلم أن الأسباب المادية مهما قويت فليست بشيء بالنسبة إلى قوة الله الذي خلقها وأوجدها؛ افتخرت عاد بقوتها وقالوا: من أشد منا قوة ؟ فقال الله تعالى : {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لايُنْصَرُونَ} [ فصلت : 15 - 16 ]
وافتخر فرعون بِمُلْك مصر وأنهاره التي تجري من تحته فأغرقه الله بالماء الذي كان يفتخر بمثله ، وأورث ملكه موسى وقومه وهو الذي في نظر فرعون مهين ولا يكاد يُبِين .
وافتخرت قريش بعظمتها وجبروتها فخرجوا من ديارهم برؤسائهم وزعمائهم بطرا ورئاء الناس يقولون: لا نرجع حتى نقدم بدرا فننحر فيها الجزور ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا ، فهُزِموا على يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شر هزيمة وسحبت جثثهم جِيَفًا في قليب بدر ، وصاروا حديث الناس في هذا العصر.
لو أخذنا بأسباب النصر وقمنا بواجب ديننا وكنا قدوة لا مقتدين ومتبوعين لا أتباعا لغيرنا، وأخذنا بوسائل الحرب العصرية بصدق وإخلاص لنصرنا الله على أعدائنا كما نصر أسلافنا، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [ الأحزاب : 62 ] .
اللهم هيئ لنا من أسباب النصر ما به نصرنا وعزتنا وكرامتنا ورفعة الإسلام وذل الكفر والعصيان، إنك جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
-- تعني: أنها منقوله من تفسير شيخة العلامة ابن سعدي
من مجموع رسائل ومؤلفات العلامة الشيخ
محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
( 20 / 325 )