الشيخ / محمود محمد شاكر و تفسير الإمام الطبري
هناك في إقليم طبرستان في ناحية آمُل من بلاد المشرق الإسلامي ولد الإمام محمد بن جرير الطبري عام 224هـ وتوفي عام 310هـ عن ستة وثمانين عاماً قضاها في العلم والعمل والتصنيف ، ورزقه الله القبول فسارت تصانيفه مسير الشمس والقمر ، فقد أوتي رحمه الله قدرة وبراعة على التصنيف ، وواسطة عقد مصنفاته رحمه الله تفسيره العظيم (جامع البيان في تأويل آي القرآن) ، ذلك الكتاب الذي لو سافر مسافر إلى الصين من أجل تحصيله ما كان ذلك كثيراً في حقه كما قال أبو حامد الإسفرايني عندما طالعه.[ طبقات المفسرين للداوودي 2/106] واستعار ابن خزيمة تفسير ابن جرير من ابن بالويه ثم رده بعد سنين ، وقال : (نظرت فيه من أوله إلى آخره فما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير)[ سير أعلام النبلاء للذهبي 14/272].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (وأما التفاسير التي في أيدي الناس ، فأصحها تفسير ابن جرير الطبري ، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة ، وليس فيه بدعة ، ولا ينقل عن المتهمين ، كمقاتل بن بكير والكلبي)[ مقدمة التفسير لابن تيمية].
هذا التفسير النفيس لقي من العناية في حياة مصنفه وبعده ما لم يلقه كتاب آخر ، وتنافس العلماء والأمراء في اقتنائه وشراءه ، ولا زال إلى يوم الناس هذا في المقدمة بدون منازع ، على كثرة المصنفات في التفسير ، فإنها – ولا أبالغ – قد زادت على الألف .
وفي العصور المتأخرة فُقِدَ كتابُ ابن جرير ولم يكد يوجد منه إلا نقول هنا وهناك حتى قال المستشرق الألماني (نيلدكه) عام 1860م بعد اطلاعه على بعض فقرات من هذا الكتاب "لو حصلنا على هذا الكتاب لاستطعنا أن نستغني عن كل كتب التفسير المتأخرة عليه ، ولكنه يبدو - للأسف - مفقوداً بالكلية)[ مذاهب التفسير الإسلامي لجولد زيهر ص 108] .وقبل ذلك لم يذكره إسماعيل البغدادي في كتابه (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون).
وبفضل من الله سبحانه وتعالى تم العثور على نسخة كاملة مخطوطة من هذا التفسير العظيم عند أمير (حائل) الأمير حمود من آل رشيد من أمر اء نجد ، وقد طبع الكتاب على هذه المخطوطة قريباً ، مع المخطوطة التي وجدت في دار الكتب المصرية بالقاهرة وإن كانت ناقصة ، والمخطوطة الناقصة كذلك التي وجدت في حلب في مكتبتها الأحمدية ، وقد ابتهجت الأوساط العلمية بطباعته في ذلك الحين ، واقرأ ذلك في كتاب جولد زيهر حيث صور الفرحة التي عمت أوساط المستشرقين بطباعته ، وقد رصدت أكاديمية الفنون الجميلة بباريس عام 1900 جائزة لمن يتصدى لدراسة التفسير وبيان منهج مؤلفه فيه!! ولك أن تعجب.
* أهم طبعات الكتاب:
- طبعة المطبعة الميمنية ، سنة 1321هـ الموافق 1901م في ثلاثين جزءاً.
- طبعة مصطفى البابي الحلبي في عشرة أجزاء عام 1321هـ الموافق 1901م.
- طبعة بولاق عام 1323هـ في ثلاثين جزءاً وبهامشه تفسير غريب القرآن للنيسابوري وانتهت هذه الطبعة عام 1330هـ.
- طبعة المطبعة الأميرية عام 1333هـ في ثلاثين جزءاً وبهامشه غريب القرآن للنيسابوري.
- طبعة أخرى لمكتبة البابي الحلبي في ثلاثين جزءاً عام 1373هـ ، وهي من أفضل طبعات تفسير الطبري ، ذلك أنها روجعت على عدة نسخ خطية ، مع ضبط النص على يد علماء أجلاء منهم مصطفى السقا رحمه الله الذي كتب خاتمة ضافية بين فيها عمل اللجنة في نشر الكتاب ، وقد شرحوا الشواهد الشعرية ، وصنعوا فهارس لكل جزء من الآيات المفسرة والموضوعات والقوافي.
- وقد أصدرت مطبعة البابي الحلبي نشرة مصورة من هذه النشرة عام 1388هـ .
- وقد اطلعت على طبعة لدار الفكر في بيروت متوافقة تماماً مع هذه الطبعة البابية السابقة ولكنها قامت بحذف المقدمة والخاتمة ولم تشر إلى أنها نشرة مطبعة البابي الحلبي.
- أما واسطة عقد طبعات تفسير الطبري ، التي لو تمت لما ساغ لأحد بعدها أن يقدم على تحقيق هذا الكتاب ، ولا ادعاء ذلك ، فهي الطبعة التي قام عليها العالم الجليل محمود محمد شاكر وأخوه العلامة المحدث أحمد محمد شاكر رحمهم الله جميعاً ابتداء من عام 1374هـ ونشرته دار المعارف بالقاهرة.
هذه هي طبعات الكتاب المشهورة التي عنيت بالكتاب عناية يطمئن إليها مع ما فيها من السقط وعدم وضوح المراد – أحياناً – لطول الفصل وعد وجود علامات ترقيم تهدي القارئ أثناء قراءته عدا الطبعة الأخيرة وهي التي سقنا الحديث من أجلها.
يقول محمود شاكر رحمه الله في مقدمة الجزء الأول من تفسير الطبري مبيناً الباعث له على القيام بتحقيقه بعد أن بين مكانة الكتاب وقيمته قال
( بيد أني كنت أجد من المشقة في قراءته ما أجد. كان يستوقفني في القراءة كثرة الفصول في عبارته ، وتباعد أطراف الجُمَل ، فلا يسلم لي المعنى حتى أعيد قراءة الفقرة منه مرتين أو ثلاثاً. وكان سبب ذلك أننا ألفنا نهجاً من العبارة غير الذي انتهج أبو جعفر ، ولكن تبين لي أيضاً أن قليلاً من الترقيم في الكتاب ، خليق أن يجعل عبارته أبينَ ، فلما فعلت ذلك في أنحاء متفرقة من نسختي ، وعُدْتُ بَعْدُ إلى قراءتها ، وجدتها قد ذهب عنها ما كنت أجد من المشقة... فتمنيت يومئذ أن ينشر هذا الكتاب الجليل نشرة صحيحة محققة مرقمة ، حتى تسهل قراءتها على طالب العلم ، وحتى تجنبه كثيراً من الزلل في فهم مراد أبي جعفر)).(تفسير الطبري 1/11)
وهناك سبب آخر دعا إلى نشره وتحقيقه وهو ((أن ما طبع من تفسير أبي جعفر ، كان فيه خطأ كثير وتصحيف وتحريف)) . (تفسير الطبري 1/12)
وقد عقد محمود شاكر رحمه الله عزمه على نشر هذا الكتاب نشرة علمية بعد أن رأى الحاجة ماسةَ ، ورغبة في التقرب إلى الله حيث قال ((فأضمرت في نفسي أن أنشر هذا الكتاب ، حتى أؤدي بعض حق الله عليَّ ، وأشكر به نعمة أنالها – أنا لها غير مستحق – من رب لا يؤدي عبد من عباده شكر نعمة ماضية من نعمه ، إلا بنعمة منه حادثة توجب عليه أن يؤدي شكرها ، هي إقداره على شكر النعمة التي سلفت ، كما قال الشافعي رضي الله عنه)). (تفسير الطبري 1/12)
منهجه في التحقيق والنشر:
1- تم التحقيق بالمشاركة مع شقيقه الأكبر العلامة المحدث أحمد محمد شاكر رحمه الله بحيث يقوم الشيخ أحمد شاكر بدراسة الأسانيد والحكم عليها من حيث الصناعة الحديثية ، ويقوم محمود شاكر بالباقي : مقابلة النسخ ، وتحقيق النص ، وتخريج الأقوال والشواهد الشعرية ، ووضع علامات الترقيم ، وضبط النص وما يتعلق بذلك من شرح غريب ونحو ذلك.
2- مراجعة ما في تفسير الطبري من الآثار على كتاب الدر المنثور للسيوطي وفتح القدير للشوكاني ، لأنهما يكثران النقل عن الطبري.
3- الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لم يقتصر على نقل الآثار ، بل نقل بعض كلام أبي جعفر الطبري بنصه في مواضع متفرقة ، وكذلك نقل أبو حيان في البحر المحيط ، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن في مواضع قليلة من تفسيرهما ، فقام بمقابلة المطبوع والمخطوط من تفسير الطبري على هذه الكتب. ولكن محمود شاكر رأى أن الاستمرار على هذا النهج يطيل الكتاب على غير جدوى فبدأ منذ الجزء الثاني يغفل ذكر المراجع إلا عند الاختلاف ، أو التصحيح ، أو غير ذلك مما يوجب بيان المراجع.
4- قام بمراجعة كثير مما في التفسير من الآثار ، على سائر الكتب التي هي مظنة لروايتها ، وبخاصة تاريخ الطبري نفسه ، ومن في طبقته من أصحاب الكتب التي تروي الآثار بالأسانيد. وقد استطاع المحقق أن يحرر أكثر هذه الآثار في التفسير تحريراً حسناً مقبولاً.
5- ما تكلم فيه الطبري من مسائل اللغة والنحو ، فقد راجعه على أصوله مثل (مجاز القرآن) لأبي عبيدة ، و(معاني القرآن) للفراء وغيرهما ممن يذكر أقوال أصحاب المعاني من الكوفيين والبصريين.
6- شواهد تفسير الطبري الشعرية من أبرز ما في التفسير ، وهي تزيد على ألفي شاهد (2000) شعري ، وقد قام المحقق رحمه الله بتتبع شواهده في دواوين العرب ، ونسب ما لم يكن منسوبا ، وشرحها شرحاً جيداً ، وحقق ما يحتاج إلى تحقيق من قصائدها ، ملتزماً في ذلك الاقتصار حسب الاستطاعة.
7- ظهر للمحقق رحمه الله كما قال أثناء مراجعاته أن كثيراً ممن نقل عن الطبري ، ربما أخطأ في فهم مراد الطبري ، فاعترض عليه ، لمّا استغلق عليه بعض عبارته. فقام بتقييد بعض ما بدا له خلال التعليق ، ولكنه لم يستوعب ذلك مخافة الإطالة.
8- الطبري رحمه الله في تفسيره يكثر من ترداد مصطلحات النحاة القديمة التي استقر الاصطلاح على خلافها ، فقام المحقق بتتبع هذه المصطلحات ، وقام بوضع فهرس خاص بالمصطلحات النحوية في آخر كل جزء من الأجزاء التي قام بتحقيقها.
9- كان المحقق يحب أن يبين ما انفرد به الإمام الطبري من الآراء في تأويل بعض الآيات ، ويشرح ما أغفله غيره من المفسرين ، ولكنه لم يفعل حيث خشي الإطالة مع أهمية هذا الأمر وفي هذا دعوة للباحثين الجادين للقيام على هذا الأمر الذي أراه من المباحث المهمة في حقل الدراسات القرآنية.
أما منهجه في وضع الفهارس فقد كان ينوي ترك الفهارس حتى نهاية التفسير ، ولكنه رأى الكتاب كبيراً ، وحاجة الناس إلى مراجعة بعضه على بعض ، وربط أوله بآخره فآثر أن يفرد لكل جزء فهارسه الخاصة في نهايته فكانت على هذا النحو:
- فهرس للآيات التي استدل بها الطبري في غير موضعها من التفسير. فإن الطبري ربما ذكر تفسيراً للآية في هذه المواضع لم يذكره عند تفسيره لللآية في موضعها من التفسير والذي هو مظنة ذلك القول.
- فهرساً لألفاظ اللغة ، لأن الطبري كثير الإحالة على ما مضى في كتابه ، وليكون هذا الفهرس مرجعاً لكل اللغة التي رواها الطبري ، وكثير منها مما لم يرد في المعاجم ، أو جاء بيانه عن معانيها أجود من بيان أصحاب المعاجم.
- فهرس لمباحث العربية ، لأن الطبري كثيراً ما يحيل على هذه المواضع ، ولما فيها من النفع لقارئ التفسير.
- فهرساً خاصاً بالصطلحات النحوية القديمة التي استقر الاصطلاح على غيرها، وهي كثيرة التكرار في تفسير الطبري.
- فهرس للرجال الذين تكلم عنهم العلامة أحمد شاكر في المواضع المتفرقة من التفسير.
- فهرس عام اقتصر فيه على سوى ما ذكر في الفهارس المتقدمة.
لم يقم المحقق بعمل فهارس للشواهد الشعرية في نهاية كل جزء حيث قد عزم على صنع فهرس عام للأشعار التي وردت في التفسير عند تمامه على نمط اختاره لصناعته، وكذلك فهرس أسانيد الطبري ، وفهرس الأعلام ، وفهرس الأماكن ، وفهرس المعاني ، والفهارس الجامعة لما أفرده من الفهارس في كل جزء. كل ذلك لم يتم لأنه لم يصل إلى الموعد الذي وعد بها عند بلوغه ، رحمه الله .
وقد قام المحقق بترقيم الآيات وأثبتها في رأس الصفحة فما على الباحث إلا معرفة رقم الآية من السورة المرادة ثم طلبها في أعلى الصفحة من الجزء المراد فيجد في أعلى الصفحة مثلاً(البقرة : 140) أي آية 140 من سورة البقرة وهكذا.
وقد استمر العمل في تحقيق الكتاب بداية من عام 1374هـ وتم إصدار ثلاثة عشر جزءاً حتى عام 1377هـ حيث توفي العلامة أحمد شاكر رحمه الله في نهاية شهر ذي القعدة عام 1377هـ ، وقد عبر عن ذلك محمود شاكر في مقدمة الجزء الثالث عشر فقال
(وبعد : ففي الساعة السادسة من صبيحة يوم السبت السادس والعشرين من ذي القعدة سنة 1377(14 يونية سنة 1958م) قضى الله قضاءه بالحق ، فألحق بالرفيق الأعلى أخي وشقيقي السيد أحمد محمد شاكر ، مودعاً بالدعاء ، محفوفاً بالثناء)).13/1
ثم صدر الجزء الرابع عشر سنة 1378هـ والجزء الخامس عشر سنة 1380هـ والجزء السادس عشر والأخير سنة 1388هـ وتوقف عن الآية رقم 28 من سورة إبراهيم.
وسبب توقفه عن الاستمرار في التحقيق هو خلاف نشأ بينه وبين دار المعارف التي قامت على نشر الكتاب فيما ذكر من تحدث عنه وترجم له مؤخراً[محمود محمد شاكر لعمر القيَّام ص 67] ، وقد توفي الشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله عام 1418هـ ولم يتم تحقيق الكتاب إلى الآن ، وقد ترك رحمه الله فراغاً كبيراً في الثقافة الإسلامية بعامة فقد كان يمثل منهجاً كاملاً قل من يقوم به بعده مع أن هناك تلامذة مخلصون من تلاميذه من أمثال الدكتور إحسان عباس والدكتور محمد أبو موسى هم من خيرة من ترك من التلاميذ قدرةً على قراءة التراث الإسلامي ، وتذوقاً له ، ولكن لم يبلغوا شأوه رحمه الله ولا أظنهم يزعمون ذلك!!
وقد قرأت بشرى سارة عن تحقيق هذا الكتاب كاملاً في دار هجر بالقاهرة بالتعاون مع معالي الشيخ عبدالله التركي وفقه الله ، وسوف يخرج في خمسة وعشرين مجلداً.(مقدمة تحقيق البداية والنهاية لابن كثير للدكتور عبدالسند حسن يمامة) ولعله بهذا قد نشر كاملاً نشراً علمياً متقناً كما تعودنا من دار هجر التي عنيت مؤخراً بإخراج نفائس الكتب المطولة كالمغني والبداية والنهاية وغيرها. انتهت المقالة المنشورة.